فصل: تفسير الآيات (32- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (23- 31):

{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)}
عن ابن عباس، أن قوماً من الصحابة قالوا: يا رسول الله، حدثنا بأحاديث حسان، وبأخبار الدهر، فنزل: {الله نزل أحسن الحديث}. وعن ابن مسعود، أن الصحابة ملأوا مكة، فقالوا له: حدثنا، فنزلت. والابتداء باسم الله، وإسناد نزل لضميره مبنياً عليه فيه تفخيم للمنزل ورفع منه، كما تقول: الملك أكرم فلاناً، هو أفخم من: أكرم الملك فلاناً. وحكمة ذلك البداءة بالأشراف من تذكر ما تسند إليه، وهو كثير في القرآن، كقوله: {الله يصطفي من الملائكة رسلاً} و{وكتاباً} بدل من {أحسن الحديث}. وقال الزمخشري: ويحتمل أن يكون حالاً. انتهى. وكان بناء على أن {أحسن الحديث} معرفة لإضافته إلى معرفة. وأفعل التفضيل، إذا أضيف إلى معرفة، فيه خلاف. فقيل: إضافته محضة، وقيل: غير محضة. و{مشابهاً}: مطلق في مشابهة بعضه بعضاً. فمعانيه متشابهة، لا تناقض فيها ولا تعارض، وألفاظه في غاية الفصاحة والبلاغة والتناسب، بحيث أعجزت الفصحاء والبلغاء. وقرأ الجمهور: {مثاني}، بفتح الياء؛ وهشام، وابن عامر، وأبو بشر: بسكون الياء، فاحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف، واحتمل أن يكون منصوباً، وسكن الياء على قول من يسكن الياء في كل الأحوال، لانكسار ما قبلها استثقالا للحركة عليها. ومثاني يظهر أنه جمع مثنى، ومعناه: موضع تثنية القصص والأحكام والعقائد والوعد والوعيد. وقيل: يثنى في الصلاة بمعنى: التكرير والأعادة. انتهى. ووصف المفرد بالجمع، لأن فيه تفاصيل، وتفاصيل الشيء جملته. ألا ترى أنك تقول: القرآن سور وآيات؟ فكذلك تقول: أحكام ومواعظ مكررات، وأصله كتاباً متشابهاً فصولاً مثاني، حذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه. وأجاز الزمخشري أن يكون من باب برمة أعشار وثوب أخلاق، وأن يكون تمييزاً عن متشابهاً، فيكون منقولاً من الفاعل، أي متشابهاً مثانية. كما تقول: رأيت رجلاً حسناً شمائل، وفائدة تثنيته وتكرره رسوخه في النفوس، إذ هي أنفر شيء عن سماع الوعظ والنصيحة. والظاهر حمل القشعريرة على الحقيقة، إذ هو موجود عند الخشية، محسوس يدركه الإنسان من نفسه، وهو حاصل من التأثر القلبي. وقيل: هو تمثيل تصوير لإفراط خشيتهم، والمعنى: أنه حين يسمعونه يتلي ما فيه من آيات الوعيد، عرتهم خشية تنقبض منها جلودهم.
ثم إذا ذكروا لله ورحمته لانت جلودهم، أي زال عنها ذلك التقبض الناشئ عن خشية القلوب بزوال الخشية عنها، وضمن تلين معنى تطمئن جلودهم لينة غير منقبضة، وقلوبهم راجية غير خاشية، ولذلك عداه بإلى. وكان في ذكر القلوب في هذه الجملة دليل على تأثرها عند السماع، فاكتفى بقشعريرة الجلود عن ذكر خشية القلوب لقيام المسبب مقام السبب. فلما ذكر اللين ذكرهما، وفي ذكر اللين دليل على المحذوف الذي هو رحمة الله، كما كان في قوله: {إذا ذكر الله وجلت قلوبهم}
دليل بقوله: {وجلت} عن ذكر المحذوف، أي إذا ذكر وعيد الله وبطشه. وقال العباس بن عبد المطلب: قال النبي عليه السلام: «من اقشعر جلده من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها» وقال ابن عمر: وقد رأى ساقطاً من سماع القرآن فقال: إنا لنخشى الله، وما نسقط هؤلاء يدخل الشيطان في جوف أحدهم. وقالت أسماء بنت أبي بكر: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم عند سماع القرآن، قيل لها: إن قوماً اليوم إذا اسمعوا القرآن خر أحدهم مغشياً عليه، فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وقال ابن سيرين: بيننا وبين هؤلاء الذين بصرعون عند قراءة القرآن أن يجعل أحدهم على حائط باسطاً رجليه، ثم يقرأ عليه القرآن كله، فإن رمى بنفسه فهو صادق. والإشارة بذلك إلى الكتاب، أو إلى ذينك الوصفين من الاقشعرار واللين، أي أثر هدى الله. {أفمن يتقي}: أي يستقبل، كما قال الشاعر:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ** فتناولته واتقتنا باليد

أي: استقبلتنا بيدها لتقي بيدها وجهها أن يرى. والظاهر حمل بوجهه على حقيقته. لما كان يلقي في النار مغلولة يداه إلى رجليه مع عنقه، لم يكن له ما يتقي به النار إلا وجهه. قال مجاهد: يجر على وجهه في النار، ويجوز أن يعبر بالوجه عن الجملة. وقيل: المعنى وصف كثرة ما ينالهم من العذاب، يتقيه أولاً بجوارحه، فيتزيد حتى يتقيه بوجهه الذي هو أشرف جوارحه، وفيه جواب، وهو غاية العذاب. قال ابن عطية: وهذا المعنى عندي أبين بلاغة. في هذا المضمار يجري قول الشاعر:
يلقي السيوف بوجهه وبنحره ** ويقيم هامته مقام المغفر

لأنه إنما أراد عظم جرأته عليها، فهو يلقاها بكل مجن، وبكل شيء عنه، حتى بوجهه وبنحره. انتهى. و{سوء العذاب}: أشده، وخبر من محذوف قدره الزمخشري: كمن أمن العذاب، وابن عطية: كالمنعمين في الجنة. {وقيل للظالمين}: أي قال ذلك خزنة النار، {ذوقوا ما كنتم}: أي وبال ما كنتم {تكسبون} من الأعمال السيئة. {كذب الذين من قبلهم}: تمثيل لقريش بالأمم الماضية، وما آل إليه أمرهم من الهلاك. {فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون}: من الجهة التي لا يشعرون أن العذاب يأتيهم من قبلها، ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها. كانوا في أمن وغبطة وسرور، فإذا هم معذبون مخزيون ذليلون في الدنيا من ممسوخ ومقتول ومأسور ومنفي. ثم أخبر أن ما أعدلهم في الآخرة أعظم. وانتصب {قرآناً عربياً} على الحال، وهي حال مؤكدة، والحال في الحقيقة هو عربياً، وقرآنا توطئة له. وقيل: انتصب على المدح، ونفى عنه العوج، لأنه مستقيم يرى من الاختلاف والتناقض. وقال عثمان بن عفان: غير مضطرب. وقال ابن عباس: غير مختلف.
وقال مجاهد: غير ذي لبس. وقال السدي: غير مخلوق. وقيل: غير ذي لحن. قال الزمخشري: فإن قلت: فهلا قيل مستقيماً أوغير معوج؟ قلت: فيه فائدتان: إحدهما: نفى أن يكون فيه عوج قط، كما قال: {ولم يجعل له عوجاً} والثاني: أن لفظ العوج مختص بالمعاني دون الأعيان. وقيل: المراد بالعوج: الشك واللبس، وأنشد:
وقد أتاك يقيناً غير ذي عوج ** من الإله وقول غير مكذوب

انتهى. ولما ذكر تعالى أنه ضرب في القرآن {من كل مثل}: أي محتاج إليه، ضرب هنا مثلاً لعابد آلهة كثيرة، ومن يعبد الله وحده، ومثل برجل مملوك اشترك فيه ملاك سيئو الأخلاق، فهو لا يقدر أن يوفي كل واحد منهم مقصوده، إذ لا يتغاضى بعضهم لبعض لمشاحتهم، وطلب كل منهم أن يقضي حاجته على التمام، فلا يزال في عناء وتعب ولوم من كل منهم. ورجل آخر مملوك جميعه لرجل واحد، فهو معني بشغله لا يشغله عنه شيء، ومالكه راض عنه إن قد خلص لخدمته وبذل جهده في قضاء حوائجه، فلا يلقى من سيده إلا إحساناً، وتقدم الكلام في نصب المثل وما بعده. وقال الكسائي: انتصب رجلاً على إسقاط الخافض، أي مثلاً لرجل، أو في رجل فيه، أي في رقه مشتركاً، وفيه صلة لشركاء. وقرأ عبد الله، وابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، والزهري، والحسن: بخلاف عنه؛ والجحدري، وابن كثير وأبو عمرو: سالما اسم فاعل من سلم، أي خالصاً من الشركة. وقرأ الأعرج، وأبو جعفر، وشيبة، وأبو رجاء، وطلحة، والحسن: بخلاف عنه؛ وباقي السبعة: سلما بفتح السين واللام. وقرأ ابن جبير: سلما بكسر السين وسكون اللام، وهما مصدر ان وصف بهما مبالغة في الخلوص من الشركة. وقرئ: ورجل سالم، برفعهما. وقال الزمخشري: أي وهناك رجل سالم لرجل. انتهى، فجعل الخبر هناك. ويجوز أن يكون ورجل مبتدأ، لأنه موضع تفصيل، إذ قد تقدم ما يدل عليه، فيكون كقول امرئ القيس:
إذا ما بكى من خلفها انحرفت له ** بشقّ وشق عندنا لم يحوّل

وقال الزمخشري: وإنما جعله رجلاً ليكون أفطن لما شقى به أو سعد، فإن المرأة والصبي قد يغفلان عن ذلك. وانتصب مثلاً على التمييز المنقول من الفاعل، إذ التقدير: هل يستوي مثلهما؟ واقتصر في التمييز على الواحد، لأنه المقتصر عليه أو لا في قوله: {ضرب الله مثلاً}، ولبيان الجنس. وقرئ: مثلين، فطابق حال الرجلين. وقال الزمخشري: ويجوز فيمن قرأ مثلين أن يكون الضمير في يستويان للمثلين، لأن التقدير مثل رجل، والمعنى: هل يستويان فيما يرجع إلى الوصفية؟ كما يقول: كفى بهما رجلين. انتهى. والظاهر أنه يعود الضمير في يستويان إلى الرجلين، فأما إذا جعلته عائداً إلى المثلين اللذين ذكر أن التقدير مثل رجل ورجل، فإن التمييز إذ ذاك يكون قد فهم من المميز الذي هو الضمير، إذ يصير التقدير: هل يستوي المثلان مثلين؟ قل: {الحمد لله}: أي الثناء والمدح لله لا لغيره، وهو الذي ثبتت وحدانيته، فهو الذي يجب أن يحمد، {بل أكثرهم لا يعلمون}، فيشركون به غيره.
ولفظة الحمد لله تشعر بوقوع الهلاك بهم بقوله: {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} ولما لم يلتفتوا إلى هذه الدلائل الباهرة، أخبر الجميع بأنهم ميتون وصائرون إليه، وأن اختصامكم يكون بين يديه يوم القيامة، وهو الحكم العدل، فيتميز المحق من المبطل، وهو عليه السلام وأتباعه المحقون الفائزون بالظفر والغلبة، والكافرون هم المبطلون. فالضمير في وإنك خطاب للرسول، وتدخل معه أمته في ذلك. والظاهر عود الضمير في {وإنهم} على الكفار، وغلب ضمير الخطاب في {إنك} على ضمير الغيبة في إنهم، ولذلك جاء {تختصمون} بالخطاب، فتحتج أنت عليهم بأنك قد بلغت، وكذبوا واجتهدت في الدعوة، ولجوا في العناد. وقال أبو العالية: هم أهل القبلة، يختصمون بينهم يوم القيامة في مظالمهم. وأبعد من ذهب إلى أن هذا الخصام سببه ما كان في قتل عثمان، وما جرى بين علي ومعاوية بسبب ذلك، رضى الله عنهم. وقيل: يختصم الجميع، فالكفار يخاصم بعضهم بعضاً حتى يقال لهم: لا تختصموا لدي. والمؤمنون يتلقون الكافرين بالحجج، وأهل القبلة يكون بينهم الخصام. وقرأ ابن الزبير، وابن أبي إسحاق، وابن محيصن، وعيسى، واليماني، وابن أبي غوث، وابن أبي عبلة: إنك مائت وإنهم مائتون، وهي تشعر بحدوث الصفة؛ والجمهور: ميت وميتون، وهي تشعر بالثبوت واللزوم كالحي.

.تفسير الآيات (32- 40):

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)}
{فمن أظلم ممن كذب على الله}: هذا تفسير وبيان للذين يكون بينهم الخصومة، وهذا يدل على أن الاختصام السابق يكون بين المؤمنين والكافرين، والمعنى: لا أجد في المكذبين أظلم ممن افترى على الله، فنسب إليه الولد والصاحبة والشريك، وحرّم وحلل من غير أمر الله؛ {وكذب بالصدق}: وهو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ {إذا جاءه}: أي وقت مجيئه، فاجأه بالتكذيب من غير فكر ولا ارتياء ولا نظر، بل وقت مجيئه كذب به. ثم توعدهم توعداً فيه احتقارهم على جهة التوقيف، وللكافرين مما قام فيه الظاهر مقام المضمر، أي مثوى لهم، وفيه تنبيه على علة كذبهم وتكذبيهم، وهو الكفر. {والذي جاء بالصدق} معادله لقوله: {فمن أظلم}. {وصدّق به} مقابل لقوله: {وكذب بالصدق}. والذي جنس، كأنه قال: والفريق الذي جاء بالصدق، ويدل عليه: {أولئك هم المتقون}، فجمع. كما أن المراد بقوله: {فمن أظلم}، يراد به جمع، ولذلك قال {مثوى للكافرين}. وفي قراءة عبد الله: والذي جاؤا بالصدق وصدقوا به. وقيل: أراد والذين، فحذفت منه النون، وهذا ليس بصحيح، إذ لو أريد الذين بلفظ الذي وحذفت منه النون، لكان الضمير مجموعاً كقوله:
وإن الذي حانت بفلح دماؤهم

ألا ترى أنه إذا حذفت النون في المثنى كان الضمير مثنى؟ كقوله:
أبني كليب أن عميّ اللذا ** قتلا الملوك وفككا الأغلالا

وقيل: الذي جاء بالصدق وصدق به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: الذي جاء بالصدق جبريل، والذي صدق به هو محمد صلى الله عليه وسلم. وقال عليّ، وأبو العالية، والكلبي، وجماعة: الذي جاء بالصدق هو الرسول، والذي صدق به هو أبو بكر. وقال أبو الأسود، ومجاهد، وجماعة: الذي صدق به وهو عليّ بن أبي طالب. وقال الزمخشري: والذي جاء بالصدق وصدق به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. جاء بالصدق وآمن به، وأراد به إياه ومن تبعه، كما أراد بموسى إياه وقومه في قوله: {ولقد آيتنا موسى الكتاب لعلهم يهتدون} ولذلك قال: {أولئك هم المتقون}، إلا أن هذا في الصفة، وذلك في الاسم. ويجوز أن يريد: والفوج والفريق الذي جاء بالصدق وصدق به، وهو الرسول الذي جاء بالصدق، وصحابته الذين صدقوا به. انتهى. وقوله: وأراد به إياه ومن تبعه، كما أراد بموسى إياه وقومه. استعمل الضمير المنفصل في غير موضعه، وإنما هو متصل، فإصلاحه وأراده به ومن تبعه، كما أراده بموسى وقومه: أي لعل قومه يهتدون، إذ موسى عليه السلام مهتدٍ. فالمترجى هداية قومه، لا هدايته، إذ لا يترجى إلا ما كان مفقوداً لا موجوداً. وقوله: ويجوز إلخ، فيه توزيع الصلة، والفوج هو الموصول، فهو كقوله: جاء الفريق الذي شرف وشرّف.
والأظهر عدم التوزيع، بل المعطوف على الصلة، صلة لمن له الصلة الأولى.
وقرأ الجمهور: {وصدق} مشدداً؛ وأبو صالح، وعكرمة بن سليمان، ومحمد بن جحازة: مخففاً. قال أبو صالح: وعمل به. وقيل: استحق به اسم الصدق. قال ابن عطية: فعلى هذا إسناد الأفعال كلها إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وكأن أمته في ضمن القول، وهو الذي يحسن {أولئك هم المتقون}. انتهى. وقال الزمخشري: أي صدق به الناس، ولم يكذبهم به، يعني: أداه إليهم، كما نزل عليه من غير تحريف. وقيل: معناه: وصار صادقاً به، أي بسببه، لأن القرآن معجزة، والمعجزة تصديق من الحكيم الذي لا يفعل القبيح لمن يجريها على يديه، ولا يجوز أن يصدق إلا الصادق، فيصير لذلك صادقاً بالمعجزة. وقرئ: وصدق به. انتهى، يعني: مبنياً للمفعول مشدداً. وقال صاحب اللوامح: جاء بالصدق من عند الله وصدق بقوله، أي في قوله، أو في مجيئه، فاجتمع له الصفتان من الصدق: من صدقه من عند الله، وصدقه بنفسه، وذلك مبالغة في المدح. انتهى.
{لهم ما يشاءون}: عام في كل ما تشتهيه أنفسهم وتتعلق به إرادتهم. و{ليكفر}: متعلق بالمحسنين، أي الذين أحسنوا ليكفر، أو بمحذوف، أي يسر ذلك لهم ليكفر، لأن التكفير لا يكون إلا بعد التيسير للخير. و{أسوأ الذي عملوا}: هو كفر أهل الجاهلية ومعاصي أهل الإسلام. والتكفير يدل على سقوط العقاب عنهم على أكمل الوجوه، والجزاء بالأحسن يدل على حصول الثواب على أكمل الوجوه، فقيل: ذلك يكون إذا صدقوا الأنبياء فيما أتوابه. وقال مقاتل: يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم، ولا يجزيهم بالمساوي، وهذا قول المرجئة، يقولون: لا يضر شيء من المعاصي مع الإيمان. واحتج بهذه الآية، وقام الظاهر مقام المضمر في المحسنين، أي ذلك جزاؤهم، فنبه بالظاهر على العلة المقتضية لحصول الثواب. والظاهر أن أسوأ أفعل تفضيل، وبه قرأ الجمهور: وإذا كفر أسوأ أعمالهم، فتكفير ما هو دونه أحرى. وقيل: أفعل ليس للتفضيل، وهو كقولك: الأشج أعدل بني مروان، أي عادل، فكذلك هذا، أي سيء الذين عملوا. ويدل على هذا التأويل قراءة ابن مقسم، وحامد بن يحيى، عن ابن كثير: أسوأ هنا؛ وفي حم السجدة بألف بين الواو والهمزة جمع سوء، ولا تفضيل فيه. والظاهر أن بأحسن أفعل تفضيل فقيل: لينظر إلى أحسن طاعاته فيجزي الباقي في الجزاء على قياسه، وإن تخلف عنه بالتقصير. وقيل: بأحسن ثواب أعمالهم. وقيل: بأحسن من عملهم، وهو الجنة، وهذا ينبو عنه {بأحسن الذي}. وقال الزمخشري: أما التفضيل فيؤذن بأن الشيء الذي يفرط منهم من الصغائر والزلات المكفرات هو عندهم الأسوأ لاستعظامهم المعصية، والحسن الذي يعملون هو عند الله الأحسن لحسن إخلاصهم فيه، فلذلك ذكر سيئهم بالأسوأ، وحسنهم بالأحسن.
انتهى، وهو على رأى المعتزلة، ويكون قد استعمل أسوأ في التفضيل على معتقدهم، وأحسن في التفضيل على ما هو عند الله، وذلك توزيع في أفعل التفضيل، وهو خلاف الظاهر.
قالت قريش: لئن لم ينته محمد عن تعييب آلهتنا وتعيينا، لنسلطها عليه فتصيبه بخبل وتعتريه بسوء، فأنزل الله: {أليس الله بكاف عبده}: أي شر من يريده بشر، والهمزة الداخلة على النفي للتقرير، أي هو كاف عبده، وفي إضافته إليه تشريف عظيم لنبيه. وقرأ الجمهور: عبده، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرأ أبو جعفر، ومجاهد، وابن وثاب، وطلحة، والأعمش، وحمزة، والكسائي: عباده بالجمع، أي الأنبياء والمطيعين من المؤمنين؛ {ويخوفونك بالذين من دونه}: وهو الأصنام. ولما بعث خالداً إلى كسر العزى، قال له سادنها: إني أخاف عليك منها، فلها قوة لا يقوم لها شيء. فأخذ خالد الفأس، فهشم به وجهها ثم انصرف. وفي قوله: {ويخوفونك}، تهكم بهم لأنهم خوفوه بما لا يقدر على نفع ولا ضرر. ونظير هذا التخويف قول قوم هو دله: {إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء} وقرئ: {بكافي عبده} على الإضافة، ويكافي عباده مضارع كفى، ونصب عباده فاحتمل أن يكون مفاعلة من الكفاية، كقولك: يجازي في يجزي، وهو أبلغ من كفى، لبنائه على لفظظ المبالغة، وهو الظاهر لكثرة تردّد هذا المعنى في القرآن، كقوله: {فسيكفيكم الله} ويحتمل أن يكون مهموزاً من المكافأة، وهي المجازاة، أي يجزيهم أجرهم.
ولما كان تعالى كافي عبده، كان التخويف بغيره عبثاً باطلاً. ولما اشتملت الآية على مهتدين وضالين، أخبر أن ذلك كله هو فاعله، ثم قال: {أليس الله بعزيز}: أي غالب منيع، {ذي انتقام}: وفيه وعيد لقريش، ووعد للمؤمنين. ولما أقروا بالصانع، وهو الله، أخبرهم أنه تعالى هو المتصرف في نبيه بما أراد. فإن تلك الأصنام التي يدعونها آلهة من دونه لا تكشف ضراً ولا تمسك رحمة، أي صحة وسعة في الرزق ونحو ذلك. وأرأيتم هنا جارية على وضعها، تعدت إلى مفعولها الأول، وهو ما يدعون. وجاء المفعول الثاني جملة استفهامية، وفيها العائد على ما، وهو لفظ هن وأنث تحقيراً لها وتعجيزاً وتضعيفاً. وكان فيها من سمى تسمية الإناث، كالعزى ومناة واللات، وأضاف إرادة الله الضر إلى نفسه والرحمة إليها، لأنهم خوفوه مضرتها، فاستسلف منهم الإقرار بأن خالق العالم هو الله. ثم استخبرهم عن أصنامهم، هل تدفع شرّاً وتجلب خيراً؟ وقرأ الجمهور: كاشفات وممسكات على الإضافة؛ وشيبة، والأعرج، وعمرو بن عبيد، وعيسى: بخلاف عنه؛ وأبو عمرو، وأبو بكر؛ بتنوينهما ونصب ما بعدهما. ولما تقرر أنه تعالى كافية، وأن أصنامهم لا تضر ولا تنفع، أمره تعالى أنه يعلم أنه تعالى هو حسبه، أي كافية. والجواب في هذا الاستخبار محذوف، والتقدير: فإنهم سيقولون: لا تقدر على شيء من ذلك. وقال مقاتل: استخبرهم فسكتوا. {قل يا قوم اعملوا}: تقدم الكلام على نظيرها.